من الواضح أنّ العالم الإسلامي في حالة مزرية وفي فوضى عارمة. نزاعات سياسية في كل مكان، فساد مستشري، فقر في الحالة الاقتصادية، حالات متفشية من العنف والكراهية، غياب كامل للحريات، عدم وجود الليبرالية وحقوق الإنسان، وهذه هي بعض السمات التي تميّز المجتمعات الإسلامية بشكل صارح. كافة المؤشرات تدلّ على أنّ الأمور ستستمر بالحؤول من السيء إلى الأسوأ خلال العقود التالية.
من بين العوامل المتعدّدة التي تميّز المجتمعات الإسلامية عن غيرها من المجتمعات الأكثر تقدّماً وازدهاراً هي افتقارها للمفكرين الأحرار _وبالتحديد: النقّاد والمصلحين_ القادرين على نقد ومراجعة المفاهيم والقضايا التي تمثّل الإشكاليات العالقة في صلب ثقافاتها المجتمعية، وتحديداً الجذور الدينية الثيولوجية.
من بين العوامل المتعدّدة التي تميّز المجتمعات الإسلامية عن غيرها من المجتمعات الأكثر تقدّماً وازدهاراً هي افتقارها للمفكرين الأحرار _وبالتحديد: النقّاد والمصلحين_ القادرين على نقد ومراجعة المفاهيم والقضايا التي تمثّل الإشكاليات العالقة في صلب ثقافاتها المجتمعية، وتحديداً الجذور الدينية الثيولوجية.
المجتمعات الأخرى كانت لها مشاكلها الخاصة بها في الماضي.. إلا أنّ تلك المجتمعات قد أفسحت المجال أمام ظهور مفكرين وعلماء أحرار، فلاسفة ومصلحين مبدعين. إذ أنّ هؤلاء المفكرين والفلاسفة قد مارسوا شتى صنوف النقد والمراجعة الحرة التي لا يقيّدها شيء للدلالة على مواضع العلل والأسباب _ومن ضمنها الأسباب الدينية_ الرئيسية التي تنخر مجتمعاتهم. فالمجتمعات اليهودية مثلاً أفرزت عقولاً لامعة كبندكت دي سبينوزا، كارل ماركس، وألبرت آنشتاين من بين العديد غيرهم. كما أنّ المجتمعات المسيحية قدّمت مفكّرين عظماء أمثال رينيه ديكارت، إيمانويل كانط، ديفيد هيوم، جون ستيوارت مِِل، برتراند رسل وغيرهم الكثيرين. بعض هؤلاء المفكّرين _سبينوزا على سبيل المثال_ قد استفزّ السلطات الدينية، وواجه انتقادات كثيرة، إلا أنّ أفكارهم وآرائهم لم يتمّ خنقها أو كبحها، بل تمّ تناولها بشفافية، ومناقشتها، ولم تتعرّض حياتهم للتهديد والخطر. فقوّة أفكارهم التقدمية والإصلاحية في المجالات الاجتماعية والسياسية لاقت قبولاً عظيماً، وانتصرت في النهاية. وكنتيجة لذلك، تمّ إصلاح تلك المجتمعات، ثمّ علمنتها، فازدهرت وتقدّمت.
لكنّ المجتمعات الإسلامية التي ظهرت فيها كافة أنواع وصنوف الهرطقات والغنوصيات والبدع، لم تفتح الأبواب بشكل جدي لظهور مفكريها ومصلحيها الأحرار وبروزهم، وخصوصاً على مرّ القرون الثمانية الماضية.
لا يمكن لأحدٍ إنكار حقيقة أنّالعالم الإسلامي عرف فترة من الازدهار، فبرز وأظهر تفوّقه فيما يسمى بالعصر الذهبي للإسلام والذي امتد بين فترة (800-1200 للميلاد). ويعود الفضل في ذلك _على الأرجح_ لواقع أنّ العالم الإسلامي وقع في الأيدي الخطأ منذ وفاة مؤسسه محمد (632 للميلاد) وخلفائه الأربعة من بعده. ومن المعروف والواضح للدارس المدقق أنّ حكام بني أمية الإمبرياليين الذين حكموا العالم الإسلامي خلال الفترة ما بين (661-750 للميلاد) كانوا يقومون بعكس ما أمرهم به نبيهم محمد، ومن أعتى المخالفين للتشريعات والتعاليم الإسلامية، باستثناء في الأوقات التي تخدم فيها أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فمثلاً، قاموا بتلفيق عشرات ومئات الأحاديث على لسان محمد، وذلك باعتراف من حاخامهم أبا هريرة بأنه قام بتلفيق الأحاديث ثم نقلها فيما بعد عنه تلميذه الحاخام البخاري، كما أنهم اخترعوا فريضة الجهاد وقاموا بتوظيفها لخدمة حروبهم الإمبريالية التوسعية. في حين أنهم بذلوا جهودهم لمنع العناصر غير المسلمة من الدخول في الإسلام، وذلك لكي يتمكنوا من تحصيل أكبر قدر ممكن من الضرائب منهم.
خلال فترة الحكم الأموي، ازدهرت كافة صنوف الأفكار التقدمية وغير التقليدية، باستثناء الهرطقات الدينية كحركة المعتزلة العقلانية، بدون قيود في المجتمعات الإسلامية.
أما خلال العصر العباسي الذي امتدّ خلال الفترة ما بين (750-1250 للميلاد)، فقد رفض العباسيون وأنكروا الطرق والأساليب العربية وتبنوّا سمات الحضارة الفارسية _ويلاحظ أنّ العباسيين قد تبنّوا شخصيات وأعرافاً من هذه الحضارة "الضلالية" كما كانوا يطلقون عليها وما زال إسلاميو اليوم يسمونها_ خلال تلك الفترة كانت الحضارة الفارسية في أوج ازدهارها، وكانت تمتلك تراثاً حضارياً وثقافياً عريقاً سابقاً على الإسلام. ويلاحظ أنّ العباسيين فضّلوا العلوم والفلسفة على المظاهر الدينية، فالخليفة العباسي المأمون (813-833 للميلاد) على سبيل المثال، رفض فكرة قدم القرآن وألوهيته، واعتبره محدثاً وأنه مجرّد عمل بشري أنحزه النبي محمد. واستمرت سياسته هذه حتى عهد المعتصم (توفي 842 للميلاد) والواثق (توفي 847 للميلاد) إلا أنّ الواثق كان يشكّل إحراجاً عظيماً ومؤلماً للمسلمين، فلقّب "بأمير الكفّار".
إنّ ايتعاد الأجيال اللاحقة عن منابع الإسلام الأصلي سمح للإسلام الهجين بدخول عصره الذهبي، بكافة أشكال الهرطقة والبدع والأفكار الجديدة والمختلفة وغير التقليدية. فها نحن نرى أحد كبار العلماء والفلاسفة المسلمين _الرازي (توفي 945 للميلاد) يصف النبي محمد بأنه دجّال، مخادع محتال، ومزيّف, كما أنه يجيب على التحدي الذي جاء في القرآن بأن يقدر الجان والإنس على الإتيان بمثله لو اجتمعوا فقد قال بأنه مزيج من الفبركات العبثية والعبارات والجمل غير المتماسكة. ويقول الرازي عن فلسفة أفلاطون وأرسطو وعلوم إقليدس وهيبوكريتس بأنها تتضمن علماً وحكمةً أعظم مما يحتويه القرآن، وبأنها تقدّم خدمةً وفائدة للبشرية أكثر مما يقدمه القرآن وباقي الكتب المقدسة الأخرى التي لم تجلب للبشر سوى المعاناة والألم والشقاء والشرور.
لكن كل ذلك قد تغيّر بسرعة. في نفس الوقت كانت النزعات الأرثوذوكسية الإسلامية تستجمع قواها، وانتصرت، ثم ازدهرت في العالم الإسلامي بفضل جهود حجّة الإسلام المتطرّف الإمام الغزالي (توفي 1111 للميلاد) الذي أطلق على الفارابي وابن سينا _الفيلسوفان والمفكّران والعالمان العظيمان اللذان لمع نجمهما في سماء القرن الحادي عشر الميلادي وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولا زال حتى الآن في مختلف أنحاء العالم الحديث _ صفتي الزندقة والارتداد، واتهم الفلاسفة وممارسي الفلسفة بالزنادقة،وحكم عليهم بالموت، _إلا أنه من حسن حظهما أنهما كانا قد غادرا العالم قبل ذلك_ وتنسب إليه العبارة الشهيرة ((من تمنطق فقد تزندق)) دلالة على محاربته وعدائه للفلسفة والتفكير المنطقي العقلاني، فأضحت الأفكار التقدمية والعقلانية مقموعة ومخنوقة، ممّا أدى إلى تفشي التطرّف والجهل والسلفية في العالم الإسلامي. لقد مات الإسلام في عصره الذهبي واندثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق